دبي.. التسامح بالوراثة

دبي.. التسامح
بالوراثة

عدد الجنسيات التي تُقيم في الإمارات يفوق عدد الدول
الأعضاء في الهيئة الأممية

سألتُ أبي ذات
مرة، لماذا أتى جدي إلى دبي العشرينيات حيث لا شيء إلا البحر والشمس
والرمل والعريش؟ قال: أتى حيث الناس غير الناس، فقد كان من قرية في الجانب الآخر من الخليج،
أتاهم مرة عابر سبيل وطلب خبزاً يأكله، وعرف الخبّاز أنه غريب، فرفض أن يبيعه وأرسل
معاونه إلى باقي الخبّازين يُعلمهم أن غريباً دخل القرية يبحث عن خبز، فلا
تبيعوه.
خرج جدك ومعه نفر قليل لم يستطيعوا
العيش مع
قوم متعصبين حتى مع الجائعين، ومشوا 12 يوماً بين الجبال والوديان
حتى وصلوا إلى الميناء، ثم أبحروا على ظهر سفينة، وبعد ثلاثة أيام وطئت أقدامهم شواطئ دبي
بسراويل بيضاء
وسوداء تُسمى «قلمي»، وكان في استقبالهم ناس يلبسون «وزار»، فلم يكن
مهماً هنا لباسك
أو لسانك أو مذهبك أو حتى دينك، فالراحل الشيخ سعيد بن مكتوم، حاكم دبي بين 1912- 1958 كان مثلاً
للتقوى والتسامح، وكان ناسه مثله، يقبلون الآخر ويحترمونه، فالناس على دين ملوكهم، والدين هنا لا
يُقصد بمعناه الاصطلاحي الضيّق
فقط، وإنما الطبائع والعادات
كذلك.

وفي العام 1939، جاء جماعة إلى الشيخ
سعيد
يكلمونه في أمر الجائعين القادمين من الخارج، فبعض المناطق المجاورة
كانت تعاني الحرمان بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، وقالوا إن ما بين أيدينا من
طعام لا يكاد
يكفينا، لكن الشيخ سعيد قال بأريحية المتسامح والواثق بالله: يأكلون معنا
ما نأكل. وكان ولي
عهده، الراحل الشيخ راشد بن سعيد، يرى ويسمع ما كان من أمر أبيه، فنشأ متسامحاً يقول لمن يصل
إلى بلاده: حياه الله ما دام يعمل. وهو موقف يُعرف قدره عند مقارنته بغيره، فالمحيط
العربي حينئذ، كان ينظر إلى التسامح بازدراء ويحاول خنقه بيد القومية المراهقة.
ولم يكن الوضع مختلفاً على الصعيد الدولي، فقد كانت كلمة «التسامح» تقف في بلعوم
كثير من الحكومات والشعوب، حيث حقبة الإيديولوجيات العنصرية النازية والفاشية.
وفي أمريكا، كانت بعض الأماكن العامة ممنوعاً دخول السود والكلاب
إليها.
وحين سألتُ الأديب عبدالغفار حسين
عن
سرّ تقدم دبي
مقارنة
بأماكن مجاورة كانت متقدمة عليها بأشواط في ميدان
النجاح، قال إن الذي ميّز الإمارات، ودبي تحديداً، هو
التسامح، فقد كان هناك تسامح مذهبي قلّ نظيره، فحين كان الإخوة الشيعة يحتفلون
بمناسباتهم الدينية كعاشوراء، كان مطارزية (مرافقو) الشيخ يقفون إلى جانبهم ويأكلون
معهم في مساجدهم ومآتمهم التي
كانت تُقفَل في أماكن أخرى أو حتى يُمنعون من تشييدها. وبلغ التسامح
مداه مع المختلفين
دينياً، وهو أمر نادر خصوصاً مع أتباع ديانات غير سماوية، فكان
المطارزي، الذي
يمثل القوة التنفيذية، حين يرى البانياني (الهندوسي) يؤدي طقوسه على خور
دبي، يمر من جانبه
وهو متعجب منه، وينتهي الأمر عند هذا الحد. لكن الأمور لم تكن تجري بهذه البساطة في أماكن أخرى من
جزيرة العرب حيث كانت «الخيزرانة» حاضرة، وفي أحسن الأحوال كان التضييق وسوء
المعاملة «جزاء» كل مختلف. لذلك، اختار الكثيرون دبي موطناً لأعمالهم، وبعضهم انتقل
إليها قادماً من أماكن أخرى لم يكن وجوده فيها مرحباً به، فتقدمت دبي وتوقف الباقون في أماكنهم على
الرغم من امتلاكهم أسباب النجاح كالثروة النفطية والاستقرار
الأمني.
وربما يتبادر إلى
الذهن أن تسامح دبي كان نفعياً
ومرحلياً مرتبطاً بفترة ما قبل النفط حيث الحاجة إلى العنصر البشري
ورأس المال
الأجنبي اللازمين لتحريك عجلة الحياة، لكن أيام الرخاء والنعمة أثبتت
أن تسامح دبي..
بالوراثة،
ورثه محمد بن راشد آل
مكتوم عن أبيه وجده،
فأصبح مثل
الطبع المتأصل الذي يجري في العروق مع كريات الدم
الحمراء والبيضاء، حتى بلغ عدد الجنسيات التي تُقيم في
الإمارات نحو ٢٠٠ جنسية مختلفين في العرق والدين والقومية، وهو رقم يفوق عدد الدول
الأعضاء في الهيئة الأممية البالغ ١٩١ دولة، يعيشون بكرامة وسلام، يعملون ويُنتجون ويمارسون حياتهم
الطبيعية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وبشكل أفضل في أكثر الأحيان من
عيشهم في بلدانهم
الأصلية، على الرغم من التباين بين عاداتهم وعادات أهل البلد، وحتى بوجود نزاعات وحروب أحياناً
بين الدول القادمين منها، كما بين الهند وباكستان مثلاً.
لذلك نعرف نحن أن
حملة «دبي العطاء» التي أخذت على عاتقها تعليم
مليون
طفل فقير في العالم، إنما هي حملة بدأها الشيخ محمد لوجه الله، لا من
أجل منفعة أو مصلحة، فهناك تراث من التسامح يؤمن به جيل بعد جيل ويمارسه عملياً، فلم
يسمّ الشيخ محمد
الحملة باسمه وجعلها مفتوحة للجميع يمارسون فيها تسامحهم في بذل المال
لتعليم الأطفال
الفقراء بقطع النظر عن أديانهم أو أعراقهم أو ألوانهم، وهو التسامح
بشحمه ولحمه.
التسامح، الذي تنادي به الأمم
المتحضرة اليوم، وتتباهى به الدول الكبرى وتتبناه وتفرضه
فرضاً أحياناً على الأمم المتعصّبة والمتخلفة، نعرفه نحن ونمارسه جيلاً بعد جيل، بفضل حكّام
ورثوه أباً عن جد.

بقلم أحمد
أميري